×

تأبين العربية بالاحتفاء بها: أزمة اللسان العربي في بيئة الأعمال العربية

أصبح الحديث بأكثر من لغة في عالمنا اليوم أمرًا ضروريًا كالكتابة والقراءة واستخدام الإنترنت، ويختار وفي الغالب يُفرضُ على الكثير منا تعلم لغة أجنبية كلغة ثانية. يؤدي بالطبع التاريخ الاستعماري دورًا مهماً لدى الدول العربية والدول المُستعمَرة عمومًا عند تحديد اللغة الثانية؛ ففي حين أن غالبية دول المشرق العربي تُدرّس الإنجليزية، نجد الفرنسية في دول المغرب الكبير، وعلى أهمية تعلم لغة ثانية وثالثة ورابعة لا يُلغي هذا أهمية الحديث باللغة الأم أيًا كانت، والتعامل بها في المؤسسات الوطنية المختلفة. 

ويكثرُ استخدام اللغات الأجنبية في العديد من الدول العربية سواء في المؤسسات التابعة للدولة أو في المؤسسات الخاصة، وتتباين نسب استخدام العربية في كل دولة، فنجد أن دولًا مثل دول الخليج تعتمد بكثرة على اللغة الإنجليزية في بيئة أعمالها سواء الحكومية أو الخاصة وعلى صعيد العمليات المكتبية الروتينية أو التواصل اليومي بين العاملين فيها، وتسبق الإنجليزية العربية في التقارير والقرارات والنشرات ثم تُترجم للعربية من باب رفع العتب غالبًا لتظهر أمامنا عربية خشبية وفي أحيانًا كثير خاطئة وغامضة بشكل يُجبرنا على مراجعة النص الإنجليزي بشكل دائم لمعرفة المُراد.

وعلة ذلك أسباب عديدة على رأسها شروط السوق الدولي الذي تهيمن عليه اللغة الإنجليزية الدولية رفقة الهيمنة الاقتصادية والسياسية، لكن ينعجن في أزمة العربية الذاتي بالجماعي أيضًا، فلا يخفي على الكثير العقد النفسية المُركبة التي تُرافق الحديث بلسان دولة أقوى، والحال هنا للإنجليزية، وانعكاسات ذلك في سلوك الكثير من ارتباط الإنجليزية بالمهنية أو الذكاء أو البرستيج، أو حتى كملجئ نخفي حقيقة مشاعرنا بداخله ونحيا فيها حياة بديلة بعيدًا عن واقع لم نتصالح معه بعد فنفضلُ اللوذ بلغة ثانية، وما ماثل هذا من إرهاصات عقود من الاحباط وجلد الذات وتصّنيم الأخر في شتى مناحي الحياة حتى ضاق المكان باللغة الأم لتصبح محل استئناس وتنبش من قبرها لتعرض أمام الملأ في المناسبات والفعاليات في طقوس شعائرية ضد تاريخية مثل عدد مفردات البطيخ.

أما الجانب الثاني فهو موقف براجماتي، والأهم فيما أرى، ويتعلق بالطواعية المُفترضة للإنجليزية في الاستخدام في شتى المجالات سواء في الأعمال المحلية والدولية والجوانب التكنولوجية التي تكتسح عالمنا بتعدد جوانبها، أو في التواصل المكتبي اليومي، وبالرغم من وجاهة هذه الحجة إلا أنها تعكس كمية الكسل التي حلت بنّا؛ ليست الإنجليزية طيعة في ذاتها بل في كثرة استخدامها وتداولها، وليست العربية عصية في ذاتها بل في ندرة استخدامها والتعامل بها، الأمر الذي أدى لصعق خيال وإبداع وفكر أي شخص يسعى للخروج من هيمنة اللغات الأورُبية خاصة الإنجليزية والفرنسية. كما أن الجنوح لاستخدام الإنجليزية من ناحية أنه خيار عملي في ظل ضعف موقف العربية، هو خيار سليم لو فكرنا فيه لخمس دقائق وكارثي لو فكرنا فيه لأسبوع.  

ما يثير الاهتمام حقًا هو غياب الندية كموقف نفسي ومعرفي في استخدام اللغة الأم لدى الفرد، والتسّليم لهيمنة الأخر كأنه قدر لا قضاء له فيه، والجنوح لموقف معرفي بائد بوعي أو بدون في كون اللغة وسيلة نقل معلومات ووسيط تواصلي حصرًا، وهذا لا يضعنا فقط في موقع آثم حضاريًا وحسب بل ويعزز من حالة الرضى والتسليم بما هو حاصل، ويصعق المبادرات الفردية في مهدها بدل أن يرعاها.  

«إن اللغة أحد وجهي الفكر، فإذا لم تكن لنا لغة تامة صحيحة؛ فليس يكون لنا فكر تام صحيح.»  تُنسب هذه العبارة لابن خلدون وهي صحيحة بالمرة، وعلى ظاهرية الموقف الحدي لهذا المقال إلا أنه يسير عكس هذا التيار تمامًا؛ فهو إجابة عن سؤال لماذا لا يمكنني الحديث بلغتي الأم؟ أي أن موقفي موقف شخصي بحت مدفوع برغبة في تأكيد مكانتي في العالم كفرد ينتمي لجماعة لها لغتها الخاصة. 

نحن نولد في اللغة وهي «بيت الوجود» وفقًا مارتن هايدجر – على إشكالية هذا الموقف – لا فقط أداة للتواصل، نفكر ونحلم بها ومن خلالها نتحدث عما نعرفه وعن خبرتنا في العالم وعن تجربتنا الوجودية والحضارية في التاريخ كأفراد وجماعات، فإذا سكنا في لغة أخرى أو سكنتنا (أو استعمرتنا) لغة أخرى ضعنا، لا الضياع بالمعنى التأبيني بل بالمعنى المعرفي البحت، أي عالقين في تبعية دائمة ترافقها دونية مزمنة، والجانب المعرفي في أن تصبح العربية لغة معرفة ولغة علم، أي لغة فاعلة في الحديث عما نعرفه عن العالم والبناء على ذلك، ضروريٌ لتفعيل تفردها كلغة مفاهيمية للمساهمة في مسيرة الإنسانية عبر امتلاك موقف حضاري خاص بنا، شأننا شأن غيرنا. 

وبالطبع ليس هذا المقال من دعاة العودة لعربية التراث والاستعانة بالقواميس والمعاجم عند كتابة كل بريد إلكتروني، بل لتحرير العربية من شعائريتها، وصناعة مساحة واسعة لنا ولها للعب، فمن خلال اللعب والممارسة تنشط اللغة وتدب في أوصارها معاني وتراكيب صرفية جديدة وتتطور حقيقة، أي أن ندع الطبيعة تأخذ مجراها مع اللغة وهذا كفيل بجعلها لغة حية وفاعلة في التاريخ.