عن وصفة سعدي يوسف السحريّة للرشاقة الشعريّة
قد تتجلّى أهمّيّة الشعر في قدرته على طرح الأسئلة الصعبة، أو الأسئلة الجميلة[1]، تلك القادرة على موضعة الوجود الإنسانيّ في سياق يساعد على فهم التجربة. تدفعنا هذه الفكرة إلى السؤال عن صانع الأسئلة أو جامعها، أي الشاعر؛ فماذا يريد من طرح الأسئلة؟ وما الأسئلة المحيطة بشعره المكتوب باللغة العربيّة مثلًا؟
يتجدّد سؤال الشكل الشعريّ في اللغة العربيّة بين فينة وأخرى، وتعود النقاشات الممتدّة لأكثر من خمسين سنة لتطفو على سطح مياه الشعريّة الضحلة في اللغة العربيّة؛ فبينما يحتفل برنامج شعريّ بموسم آخر وعشرات الشعراء الجدد؛ وفقًا لمعاييره الجماليّة المعتمدة، تنبثق أسئلة الشكل الشعريّ مرّة أخرى، بين معارض ومؤيّد لصيغة دون أخرى، بين موزون الشطرين وموزون التفعيلة والشعر المنثور الحرّ.
لا تحاول هذه المقالة الإجابة عن هذه الأسئلة، بل تريد أن تضيء على مصيبة الشاعر الّذي يمتلك أنماطًا لغويّة كثيرة داخل لغته العربيّة، بعضها جماليّ مثل لغة الوزن أو لغة النثر، وبعضها تقنيّ مثل لغة الحياة اليوميّة أو لغة التراث، وبين هذه الأنماط الملغّمة اللغويّة، يضع الشاعر قصيدته في صندوق صغير، ويحمله مشيًا على الأقدام ليعبُر بفكرتها المضيئة. قد يتعثّر الشاعر ويسقط فوق لغم اللغة الموزونة والتراثيّة، أو لغم لغة النثر أو اللغة اليوميّة، وينفجر الصندوق الّذي يحمل فكرته المضيئة، وقد يُوَفَّق في الخروج من هذا الحقل، بشعريّة رشيقة قادرة على النجاة. إلّا أنّه سيجد الكثير من لجان التحكيم الّتي تنتظره ليعبر، لتطلق عليه نيرانها ويسقط؛ فما الوصفة السحريّة للشعريّة الرشيقة القادرة على تجاوز حقل ألغام الشعر العربيّ؟
البند واللهوة باللغة
مؤخّرًا، قرأت مجموعة للشاعر العراقيّ سعدي يوسف (1934 – 2021)، كان قد جذبني عنوانها الّذي يرنّ كما ترنّ عناوين دواوين القرن الرابع مثلًا، وكان «ديوان البند» (2019)، الصادر عن «دار نينوى» في دمشق، وهو من أواخر أعمال الشاعر الراحل. لا يختلف الديوان عن غيره من أعمال الشاعر الّذي يحتفي دائمًا بالفكرة الشعريّة، ويلهو باللغة بكلّ خفّة وروح مرحة، وإنّما يظهر هذا الديوان كجلسة تمارين شعريّة، تحاول أن تدعونا نحو مساحة قديمة لنتعرّف ونتسلّى. وهذا ما نجده في مقدّمة المجموعة أو الديوان: اليوم أحاول أن أردّ الفضل لأهله.
البند نوع من أنواع القصائد وأنماطها الّتي انتشرت في العراق كغيرها من الدو بيت، والكان كان والمواليا، وهو من الأنماط الّتي اشتهرت متأخّرة في القرن التاسع عشر، على يد ابن الخِلفة في الحِلّة، وإن كانت إرهاصات هذا الشكل قد ظهرت في القرن السابع عشر على يد ابن معتوق في البصرة. والبند لغة يعني ’الربط‘، وهي كلمة فارسيّة. أمّا وزنًا، فهو يعتمد الهزج (مفاعيلن مفاعيلن)، ويعتمد التدوير والكتلة والتدفّق. لهذا؛ يتحلّى البند بالقدرة على إطالة النفَس الشعريّ، وكأنّه نثر منظوم في عقد، وعليه يراه بعض النقّاد، صيغة أولى لشعر التفعيلة الّذي سيظهر في العراق لاحقًا؛ فماذا أراد سعدي يوسف من البند ومن العودة إليه؟
“ومن عشرين عامًا
أجلس الساعات، عند زجاج نافذتي
أحاول أن أرى
أو أسمع…
الأشياء تبدو مثلما الأشياء،
لكنْ لو عرفنا أن نرى أو نسمع الأشياء
لاخترنا مكانًا، غير نافذة الجدار
وأعني غير حفرتنا الأليفة”[2].
يترك سعدي يوسف في هذا العمل، الشبّاك الّذي يحبّه، والّذي لن يغيب في القصائد؛ ليبحث خارج حفرته العميقة، ويعود إلى البند في تراث مدينته، بحثًا أو شوقًا أو لهوًا، عبر مجموعة من التمارين، إلّا أنّه يتعجّب من الحرّيّة الّتي وجدها فيها: “والأمر العجب أنّني أحسست بحرّيّة ليس كمثلها حرّيّة في محاولتي”. ومن خلال هذه التمارين الرياضيّة، يرسل إلينا يوسف رسالة في مقدّمة الديوان، فيقول: “اليوم، أودّ أن أنبّه الفتيان الّذين يحاولون الشعر: اذهبوا إلى الحِلّة، اذهبوا إلى البند، ما أنتم واليابان؟”.
“لماذا اخترتِ أن تأتي إلى لندن من باريس، في هذا القطار
الهادر، المخنوق تحت الماء؟ لا أدري بأيّ الخطو أسعى
كي ألاقيك، وفي أيّ المحطّات؟ أنا الأعمى هنا، لا النور
يهديني، ولا ما تصطفيه الحافلات. اخترتِ ما كان قريبًا
حسنًا، لكنّني أجهل معنى الاتّجاهات
إذن، فلتأخذي
الأشياء بالحسنى!
خذي سيّارة الأجرة
أعطي سائق السيّارة الهنديّ عنواني…
وبعد سويعة
سترينني، متلهّفًا، في الباب!”[3].
اللغة بين الوزن واليوميّ
يربط سعدي يوسف في بنوده الخمسين، من خلال هذه المجموعة، بين اليوميّ والشعريّ، وبين لغة الوزن؛ محاولًا التمرّن على شكل شعريّ قديم، لكنّه لا يتخلّى عن أدواته الجماليّة الّتي اعتادها في شعره، ولا يحمّل لغته دهونًا لغويّة لا تستطيع تحمّلها، بل يبقيها رشيقة خفيفة؛ فيتحدّث مرّة عن ذكرياته العاديّة، وعن طريق بيته، ومرّة عن بلدته القديمة، وعن رفاقه السابقين، وعن مسكنه وحديقة بيته، وعن النساء، بعضهنّ، وعن يوم الأحد وفلسطين وشاتيلا وحلب ومكّة ودمشق وباريس، وعن طريقه من البيت إلى الكنيسة، وعن الطبيعة، وغير ذلك من موضوعات لا يحملها البند من قبله، كما حملها من بعده.
“لماذا نقصد الماء
وإن كنّا بعيدين عن الصحراء؟
هل ما قيل إنّ الماء أصل
أم ترانا لا نرى في الماء إلّا ما تقاضاه الوضوء؟
النور أسمى
غير أنّا مثل أهل العالم السفليّ
لا نعرف إلّا الماء.
لسنا النون
حتّى لو بدت، نحن، لنا، نونًا
ولكنّا الخراطيم
لنا الماء
لنا الميم…”[4].
ما نحن واليابان؟
في كتابه «موسيقى الحوت الأزرق» (2002)، يعتقد أدونيس أنّ “السمة المباشرة في الأعمال الإبداعيّة الكبرى هي شكلها المختلف. ولا يختلف الشكل إلّا إذا كان ينقل معنًى مختلفًا”؛ فالشكل هنا ليس مسألة تقنيّة، ولا هو مسألة تراث وتجديد، موزون ومنثور، وإنّما هو مسألة رؤية، وبالتالي “لا شكل إلّا بالخروج من المعنى المسبق. ويفترض هذا الخروج تغييرًا للعلاقات بين الكلمات والأشياء المحسوسة أو المشخّصات، وتغييرًا في الوقت نفسه للعلاقات بين الكلمات والأشياء غير المحسوسة أو المجرّدات”[5]. وهكذا فقط استطاع سعدي يوسف، تحقيق معادلة الرشاقة الشعريّة، عابرًا حقول الألغام دون أن يتقصّد، ومنبّهًا إيّانا عن قصد إلى أهمّيّة الشكل الّذي لا يملك قيمة مسبقة، ولا يحمل معنًى واحدًا فقط.
يبدو للقارئ أنّ سعدي، في ديوانه هذا، كان يتدرّب أو يلهو مع اللغة ومع أفكاره في الرحيل، مع أشواقه وحياته السابقة، ومع تراثه وذاته، يبدو أيضًا أنّه كان يسأل أسئلته ذاتها في شكل خاصّ، ليثبت لنفسه أو لنا أنّه بارع في قول ما يريد، أو أنّ الشكل لا يعني المحدوديّة، أو ليفتح لنا باب الأسئلة الكثيرة في الشعر العربيّ مرّة أخرى؛ فما نحن واليابان؟ وماذا نريد من الهايكو العربيّ مثلًا؟ أكان نداؤه نداء عودة، أم نداء تجديد؟ وهل يمكننا أن نجترح أساليب جماليّة جديدة من تراث قديم؟ هل نستطيع أن نغيّر المعيار الجماليّ للشكل المهيمن على مسابقات الشعر؟ بل هل يمكننا الجزم بأنّ سعدي نفسه سينجح في إحدى هذه المسابقات لو قدّم فيها هذه القصائد الذاتيّة واليوميّة؟
وربّما، وعلى أيّ حال، لم تكن محاولة سعدي في هذه المجموعة إلّا تنفيذًا لأحد بنود ابن معتوق، أوّل من كتب البند، في القرن السابع عشر، حين قال: “أيّها الراقد في الظلمة، نبّه طرف الفكرة من رقدة ذي الغفلة، وانظر أثر القدرة، واجلُ غلس الحيرة في فجر سنيّ الخبرة”.
إحالات
[1] أُخذت هذه الاستعارة عن الشاعر الأمريكيّ ديفيد وايت، الّذي يتحدّث دائمًا عن الأسئلة الجميلة في الشعر.
[2] سعدي يوسف، قصيدة «تدقيق» من ديوان «البند» (دمشق: دار نينوى، 2019).
[3] سعدي يوسف، قصيدة «العبور تحت الماء» من ديوان «البند».
[4] سعدي يوسف، قصيدة «النون والميم» من ديوان «البند».
[5] أدونيس، موسيقى الحوت الأزرق (بيروت: دار الآداب، 2002)، 25.